قد ذكرنا في موضوع أركان الإيمان عند قوله: [وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة ] مراتب المنتسبين إلى أهل القبلة في الكفر.
وهذا الترتيب يقبل الاجتهاد ولا حرج إن اختلفنا فيه، والمقصود إنما هو ضبط أصل المسألة، وهي معرفة أشد الفرق كفراً، والذين لا يجوز الخلاف في كفرهم، ثم من دونهم، ثم من دونهم؛ حتى نصل إلى أهل البدع والضلال الذين لا يكفرون، وإنما يبدعون ويضللون فقط.
فأول الطوائف كفراً، وهم أعدى أعداء الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأبعد الناس عن الإيمان بالله وبأصول الإسلام، وبأركان الإيمان؛ هم الفلاسفة، ونعرف مذهبهم من خلال أشخاصهم؛ كـابن سينا والرازي الطبيب والكندي والفارابي وأمثالهم، فهؤلاء أبعد الناس عن منهج الأنبياء، وهم مرتدون، لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الإسلام.
ويليهم في الكفر الباطنية، وهم فرق كثيرة، ولهم أسماء كثيرة مثل: الخرمية والبابكية والقرامطة والسبعية والمحمرة والمعلمية (التعليمية)، هذه كلها أسماء للباطنية، ولا شك أيضاً في كفرهم وخروجهم من الإسلام، وممن يعد من الفرق الباطنية في وقتنا الحاضر: الإسماعيلية والدروز والنصيرية، وهم منهم معنىً ومبنىً.
وهناك فرق باطنية حديثة النشأة، وكفرهم من جنس كفر الباطنية ؛ كـالبابية والبهائية -ويوجد منهم جماعات في أمريكا- والآغاخانية وهم في الأصل من الباطنية، وأيضاً القاديانية يلحقون بها.
ويلي الباطنية في الكفر -ويلحق بهم ويشبههم فيه- غلاة الصوفية الذين لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الملة، وهم ثلاث فرق: أهل الاتحاد، وأهل الوحدة، وأهل الحلول، وهي كلها في الكفر سواء، وهذه الثلاث الطوائف هي أكفر من ينتسب إلى التصوف، وهم يضارعون ويوازنون الباطنية في الكفر إن لم يكونوا أكفر منهم.
فـأهل الاتحاد يؤمنون بذاتين منفصلتين اتحدت هذه بتلك، فهؤلاء يسمون: الاتحادية .
أما أهل الحلول، فإنهم أيضاً يثبتون ذاتين، ولكنهم يقولون: هذه حلت في هذه، فأصبحت هي عينها بعد أن حلت فيها، فأصبحت الذاتان ذاتاً واحدة، ولكن يجوز أن تفارقها؛ كما يقول النصارى؛ فإن أصل قولهم: أن الله تعالى حل في عيسى.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأما أهل وحدة الوجود، فإنهم يرون أن الذات واحدة وليس هناك ذاتان، بل ما ثَمَّ إلا هو، أي أن الموجود هو عين الموجِد، المخلوقات هي عين ذات الخالق.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهؤلاء كلهم كفار مرتدون وإن انتسبوا إلى الملة والإسلام.
وعلى رأس هؤلاء الذين قالوا بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود: ابن عربي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين، والفاجر الذي يسمي نفسه: العفيف التلمساني، والصدر القونوي، وشمس الدين التبريزي .. وآخرون، لكن هؤلاء هم أشهرهم، ومقصودنا هو التمثيل فحسب.
والطبقة التي تلي هذه الطبقة في الكفر -وإن انتسبت إلى الإسلام-: الجهمية، واسم الجهمية يطلق على عموم من ينفي الصفات، لكننا نعني هنا الجهمية الغلاة الذين مذهبهم إنكار الأسماء والصفات جميعاً، ويقولون في الإيمان: إنه مجرد المعرفة، ويقولون في القدر: إن الفاعل هو الله، والإنسان لا إرادة له مطلقاً؛ فبهذه الأقوال وأمثالها تكون الجهمية -أيضاً- خارجة من الملة.
ويليهم في الكفر الروافض، ولا نعني بهم مجرد من يطلق عليه أنه شيعي أو فيه تشيع، وإنما المقصود الرافضة الغلاة الذين يرون تكفير الصحابة عموماً ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر، ويؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعتقدون أن القرآن محرف، وأن الإمامة أعلى من النبوة، ويشركون في الألوهية بدعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، والالتجاء إلى غير الله، واعتقاد أن أئمتهم يعلمون الغيب، ويديرون الكون، وتخضع لهم ذرات الوجود، ويذهبون عند قبورهم يتضرعون ويدعون ويستغيثون بهم؛ فهؤلاء قد حرفوا التوحيد وصرفوا العبادة لغير الله؛ فهم -ومن كان على شاكلتهم- كفار مرتدون.
ثم بعد ذلك تأتي المعتزلة، والذين يكفرون من المعتزلة هم زنادقتهم وغلاتهم الملاحدة الذين أسسوا هذا الإلحاد والضلال، وهم الذين كفرهم بعض السلف بأعيانهم.
وأما من جاء من بعدهم، ففي تكفيرهم نظر -وإن كانت مقالاتهم كفرية- لما طرأ عليهم من شبهات.
فمن أعلامهم المشهورين الذين كفرهم بعض السلف: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد.
وأعظم منهما كفراً وأصرح في الاعتزال -وهما اللذان أصلا مذهب المعتزلة على علم الكلام، وليس على شبهات نقلية- أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام، وكل منهما كان على مذهب المعتزلة في تكفير مرتكب الكبيرة، وإن لم يقولوا: إنه كافر بالاسم، ولكنهم يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، وكل منهما ألف في تكفير الآخر، وهكذا أهل البدع نسأل الله العفو والعافية.
أما بقية المعتزلة، فإننا نقول: هم من فرق الضلالة، وإن كانت مقالاتهم كفرية؛ فإن المعتزلة -في باب الأسماء والصفات- أثبتوا الأسماء جميعاً لكنهم نفوا الصفات جميعاً، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر... إلخ.
بعد ذلك نأتي إلى الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، لكنهم ينفون بعض الصفات ولا يثبتون الصفات جميعاً، وهم الأشاعرة، وهم لا يُكَفَّرون، لكنهم -كفرقة- يعدون من فرق الضلال، وأما الأفراد فأحكامهم تختلف وتتفاوت، حتى إن من أوائل الأشعرية من كان أقرب إلى السنة، ومن أواخرهم من أصبح قريباً من الفلاسفة، كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
والخوارج في درجة المعتزلة، لكن من غلا من الخوارج وأنكر بعض القرآن أصبح في درجة الروافض.
ولو قارنت بين الرافضة وبين الخوارج، أيّ الطائفتين أخف وأقل شراً وضرراً، لعلمت أنها الخوارج بلا شك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذكرهم، وأنهم على ضلالة، لكنهم إذا قورنوا مع الروافض يظلون أقل ضرراً من جهتين: أولاهما أن الخوارج لم يكفروا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وإنما تكلموا في من بعدهم؛ فهم إذن أخف ممن يكفر الشيخين، ولا شك أن من يكفر عثمان أو علياً رضي الله تعالى عنهما هو على خطر عظيم، لكنه ليس كمن كفر الشيخين أو كفر جميع الصحابة.
ثانيهما: أن الخوارج أعلى رتبة من الرافضة في عبادتهم، فلو ألحقنا كل طائفة من الطائفتين بمن هو شبيه بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نلحق الخوارج -جزئياً- بالثلاثة الذين تقالّوا العبادة، قال أولهم: أصوم ولا أفطر... إلخ، بينما الرافضة يلحقون بالمنافقين.
وإذا أردنا أن نمد المقارنة وأن نطبق صفات هذه الفرق على ما نقوله في صلاتنا في كل ركعة: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))[الفاتحة:7] كيف نصنف هذه الفرق؟ ومن نجعله مع المغضوب عليهم؟ ومن نجعله مع الضالين؟
الروافض مع المغضوب عليهم، والخوارج مع الضالين؛ لأن المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به؛ ولذلك قال سفيان بن عيينة رحمه الله -ونقل أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه-: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى]].
وأهل الكلام يلحقون بمنهج ومسلك المغضوب عليهم، والصوفية يلحقون بالضالين.
والمقصود أننا عرفنا أن في أهل القبلة من المنتسبين للإسلام من يكون في الحقيقة كافراً، وعرفنا تصنيفاً مجملاً لهم.